الأحد، 28 أكتوبر 2018

لماذا لا إله إلا الله قبل اي شيء ؟

القرآن الذي ظل يتنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر عاما كاملة بمكة، يحدثه فيها عن قضية واحدة . قضية واحدة لا تتغير ، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر،لقد كان يعالج القضية الأولى ، والقضية الكبرى ، والقضية الأساسية ، في هذا الدين الجديد ، قضية العقيدة ممثلة في قاعدتها الرئيسية . . الألوهية والعبودية ، وما بينهما من علاقة . 
لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله . . كان يقول له : من هو ؟ ومن أين جاء ; وكيف جاء ; ولماذا جاء ؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف ؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول ؟ ومن ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك ؟ . . وكان يقول له : ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه ، والذي يحس أن وراءه غيبا يستشرفه ولا يراه ؟ من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار ؟ من ذا يدبره ومن ذا يحوره ؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه ؟ . . وكان يقول له كذلك : كيف يتعامل مع خالق هذا الكون ، ومع الكون أيضا ، وكيف يتعامل العباد مع خالق العباد . 

وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود "الإنسان " . وستظل هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده ، على توالي الأزمان.
وهكذا انقضت ثلاثة عشر عاما كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى . القضية التي ليس وراءها شيء في حياة الإنسان إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات . .ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة ، إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان ، وأنها استقرت استقرارا مكينا ثابتا في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان ، التي قدر الله لها أن يقوم هذا الدين عليها ; وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين .   

وأصحاب الدعوة إلى دين الله ، وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة ; خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة . . ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما . . لتقرير هذه العقيدة ; ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها ، والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها . . 


لقد شاء الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة . وأن يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى خطواته في الدعوة ، بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ; وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق ، ويعبدهم له دون سواه . 


ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب العرب 


لقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين ، وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب ; إنما هي في يد غيرهم من الأجناس ! 

بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم ، يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان . وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء منالعرب من قبل الفرس . . وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحاري القاحلة ، التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك ! 

وكان في استطاعة - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق الأمين ; الذي حكمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود ، وارتضوا حكمه ، منذ خمسة عشر عاما ; والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا . . كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائلالعرب ، التي أكلتها الثارات ، ومزقتها النزاعات ، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة ; الرومان في الشمال والفرس في الجنوب ; وإعلاء راية العربية والعروبة ; وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة . ولو دعا يومها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة - على الأرجح - بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة 

وربما قيل : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة ; وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة ; وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه . . أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه ، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه ! 

ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا التوجيه ! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله : وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء ! 

لماذا ؟ إن الله - سبحانه - لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه . . إنما هو - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق . . ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي . . إلى يد طاغوت (العروبة والقبلية البغيضة) . . فالطاغوت كله طاغوت ! 

 ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة ، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله . 

وهذا هو الطريق . . 


وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين ، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة

قلة قليلة تملك المال والتجارة ; وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها . وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع . . والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة ; وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا ! 

وكان في استطاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يرفعها راية اجتماعية ; وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف ; وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء ! 

ولو دعا يومها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الدعوة ، لانقسم المجتمع العربي صفين : الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة ، في وجه طغيان المال والشرف . بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه : "لا إله إلا الله " التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس . 

وربما قيل : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة ; وتوليه قيادها ; فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها . . أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه ، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه ! 

ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجهه هذا التوجيه . . 

قد كان الله - سبحانه - يعلم أن هذا ليس هو الطريق . . كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل ; يرد الأمر كله لله ; ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة في التوزيع ، ومن تكافل بين الجميع ; ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه الله ; ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء . فلا تمتلئ قلوب بالطمع ، ولا تمتلئ قلوب بالحقد ، ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب ! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح ; كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير : "لا إله إلا الله " . . 


وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية . 

كان التظالم فاشيا في المجتمع ، تعبر عنه حكمة الشاعر زهير بن أبي سلمى 


ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ، ومن لا يظلم الناس يظلم
ويعبر عنه القول المتعارف : "انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . 

وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخره كذلك ! يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته . . كالذي يقوله طرفة بن العبد 
فلولا ثلاث هن من زينة الفتى     وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهـن سبقـي العاذلات بشربـة     كميـت متى ما تعل بالماء تزبــد 
.... إلخ 



وكانت الدعارة - في صور شتى - من معالم هذا المجتمع 

كالذي روته عائشة رضي الله عنها : إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم : يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته ، فيصدقها ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته - إذا طهرت من طمثها - أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه . ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه . فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر : يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة ، كلهم يصيبها . فإذا حملت ووضعت ، ومر عليها ليال ، بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، فهو ابنك يا فلان ، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل . والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما ، فمن أرادهن دخل عليهن - فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها ودعوا القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك . . . (أخرجه البخاري في كتاب النكاح ) . 

وكان في استطاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يعلنها دعوة إصلاحية ، تتناول تقويم الأخلاق ، وتطهير المجتمع ، وتزكية النفوس ، وتعديل القيم والموازين . . 

وكان واجدا وقتها - كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة - نفوسا طيبة ، يؤذيها هذا الدنس وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير . . 

وربما قال قائل : إنه لو صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فاستجابت له - في أول الأمر - جمهرة صالحة تتطهر أخلاقها ، وتزكو أرواحها ، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها . . بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا الله المعارضة القوية منذ أول الطريق ! 

 ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى مثل هذا الطريق . . 


قد كان الله - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق ! كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة ، تضع الموازين ، وتقرر القيم ; وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم ; كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين . وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة ; وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك ; بلا ضابط ، وبلا سلطان ، وبلا جزاء ! 

فلما تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة . . لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده . . لما تحرر الناس من سلطان العبيد ، ومن سلطان الشهوات سواء . . لما تقررت في القلوب : "لا إله إلا الله " . . صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون . . 

تطهرت الأرض من الرومان والفرس . . لا ليتقرر فيها سلطان العرب . . ولكن ليتقرر فيها سلطان الله . . لقد تطهرت من الطاغوت كله : رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء . 

وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته . وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل الله ، ويزن بميزان الله ، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده ؟ ويسميها راية الإسلام ، لا يقرن إليها اسما آخر ; ويكتب عليها : "لا إله إلا الله " ! 

وتطهرت النفوس والأخلاق ، وزكت القلوب والأرواح ; دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها الله - إلا في الندرة النادرة - لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ; ولأن الطمع في رضى الله وثوابه ، والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات . . 

وارتفعت البشرية في نظامها ، وفي أخلاقها ، وفي حياتها كلها ، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط ; والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام . . 

ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام ; كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم ، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك . وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعدا واحدا ، لا يدخل فيه الغلب والسلطان . . ولا حتى لهذا الدين على أيديهم . . وعدا واحدا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا . . وعدا واحدا هو الجنة . . هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني ، والابتلاء الشاق ، والمضي في الدعوة ، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان ، في كل زمان وفي كل مكان ، وهو : "لا إله إلا الله " ! 

فلما أن ابتلاهم الله فصبروا ; ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم ; ولما أن علم الله منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض - كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم ، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم - ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم ، ولا اعتزاز بوطن ولا أرض . ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت . . 

ما أن علم الله منهم ذلك كله ، علم أنهم قد أصبحوا - إذن - أمناء على هذه الأمانة الكبرى . أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها الله سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي السلوك والشعائر ، وفي الأرواح والأموال ، وفي الأوضاع والأحوال . . وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها ، وعلى عدل الله يقيمونه ، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولا ص: 1009 ] لجنسهم ; إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله ولدينه وشريعته ، لأنهم يعلمون أنه من الله ، هو الذي آتاهم إياه . 

ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع ، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء ، وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها . . راية لا إله إلا الله . . ولا ترفع معها سواها . . وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره ; المبارك الميسر في حقيقته . 

وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله ، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية ، أو دعوة اجتماعية ، أو دعوة أخلاقية . . أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد : "لا إله إلا الله " . . 

ذلك شأن تصدي القرآن المكي كله لتقرير : "لا إله إلا الله " في القلوب والعقول ، واختيار هذا الطريق - على مشقته في الظاهر - وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى والإصرار على هذا الطريق . . 

فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية الاعتقاد وحدها ، دون التطرق إلى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها ، والشرائع التي تنظم المعاملات فيها . . فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية . . 

إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا . . فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة . . كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير . . وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة الوارفة المديدة الظلال المتشابكة الأغصان ، الضاربة في الهواء . . لا بد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة ، وفي مساحات واسعة ; تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء . . فكذلك هذا الدين . . إن نظامه يتناول الحياة كلها ; ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها ; وينظم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها ، ولكن كذلك في الدار الآخرة ; ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها ; ولا في المعاملات الظاهرة المادية ، ولكن في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا . . فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية . . ولا بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضا . . 

هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته ; يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده ; ويجعل بناء العقيدة وتمكينها ، وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها . . ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة ، وضمانا من ضمانات الاحتمال والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء ، والضارب من جذورها في الأعماق . . 

ومتى استقرت عقيدة : "لا إله إلا الله " في أعماقها الغائرة البعيدة ، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه : "لا إله إلا الله " وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة . . واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته ، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته . فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان . . وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول ، لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها ; ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له . وهكذا أبطلت الخمر ، وأبطل الربا ، وأبطل الميسر ، وأبطلت العادات الجاهلية كلها ، أبطلت بآيات من القرآن ، أو كلمات من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها ونظمها وأوضاعها ، وجندها وسلطانها ، ودعايتها وإعلامها . . فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات ; بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات ! 


&بتصرف من ظلال القرآن تفسير سورة الأنعام

الجمعة، 28 سبتمبر 2018

الفرق بين البخل والشح

الفرق بين البخل والشح


اختلف أهل العلم في البخل والشح، هل هما مترادفان أم لكلِّ واحد منهما معنى غير معنى الآخر، وقد بين الطِّيبي أن الفرق بينهما عسير جدًّا  (1) وسنعرض هنا بعضًا من أقوال العلماء في الفرق بينهما:
- يرى ابن مسعود رضي الله عنه: أن البخل هو البخل بما في اليد من مال، أما الشح فهو أن يأكل المرء مال الآخرين بغير حقٍّ، فقد (قال له رجل: إني أخاف أن أكون قد هلكت قال: وما ذاك قال: إني سمعت الله يقول: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]. وأنا رجل شحيح، لا يكاد يخرج مني شيء، فقال له ابن مسعود رضي الله عنه: ليس ذاك بالشحِّ، ولكنه البخل، ولا خير في البخل، وإنَّ الشحَّ الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا)  (2) .
- وفرَّق ابن عمر بين الشحِّ والبخل، فقال: (ليس الشحيح أن يمنع الرجل ماله، ولكنه البخل، وإنه لشرٌّ، إنما الشحُّ أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له)  (3) .
- وقيل أنهما مترادفان لهما نفس المعنى  (4) .
- (وقيل: البخل: الامتناع من إخراج ما حصل عندك، والشحُّ: الحرص على تحصيل ما ليس عندك)  (5) .
- وقيل: (البخل منع الواجب، والشحُّ منع المستحب)  (6) . وهؤلاء قالوا: إن منع المستحب لا يمكن أن يكون بخلًا لعدة أمور:
أحدها: أن الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل، والوعيد لا يليق إلا بالواجب.
وثانيها: أنه تعالى ذم البخل وعابه، ومنع التطوع لا يجوز أن يذمَّ فاعله، وأن يعاب به.
وثالثها: وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل؛ لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل، وكلُّ ما يدخل في الوجود فهو متناه، فيكون لا محالة تاركًا التفضل، فلو كان ترك التفضل بخلًا لزم أن يكون الله تعالى موصوفًا بالبخل لا محالة، تعالى الله عز وجل عنه علوًّا كبيرًا.
ورابعها: قال عليه الصلاة والسلام: ((وأيُّ داء أدوأ من البخل))  (7) . ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف.
وخامسها: أنه لو كان تارك التفضل بخيلًا لوجب فيمن يملك المال كلَّه العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا بإخراج الكلِّ.
وسادسها: أنه تعالى قال: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة: 3] وكلمة من للتبعيض، فكان المراد من هذه الآية: الذين ينفقون بعض ما رزقهم الله، ثم إنه تعالى قال في صفتهم: أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5]. فوصفهم بالهدى والفلاح، ولو كان تارك التطوع بخيلًا مذمومًا لما صحَّ ذلك. فثبت بهذه الآية أن البخل عبارة عن ترك الواجب  (8) .
- وقيل: (البخل هو المنع من مال نفسه، والشحُّ هو بخل الرجل من مال غيره ...).
- وقيل: (البخل هو نفس المنع، والشحُّ الحالة النفسية التي تقتضي ذلك المنع)  (9) .
- وقيل: إنَّ الشحَّ هو البخل مع زيادة الحرص، وهو ما رجَّحه القرطبي، فقال: (وقيل: إنَّ الشحَّ هو البخل مع حرص. وهو الصحيح لما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم قال: ((اتَّقوا الظلم؛ فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتَّقوا الشحَّ؛ فإنَّ الشحَّ أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلُّوا محارمهم))  (10) . وهذا يردُّ قول من قال: إنَّ البخل منع الواجب، والشحُّ منع المستحب. إذ لو كان الشحُّ منع المستحب لما دخل تحت هذا الوعيد العظيم، والذمِّ الشديد الذي فيه هلاك الدنيا والآخرة. ويؤيد هذا المعنى ما رواه النسائي عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم أبدًا، ولا يجتمع شحٌّ وإيمان في قلب رجل مسلم أبدًا))  (11)  (12) .
- ويرى ابن القيم أنَّ (الفرق بين الشحِّ والبخل: أنَّ الشحَّ هو شدة الحرص على الشيء، والإحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه، وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشحِّ، والشحُّ يدعو إلى البخل، والشحُّ كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحَّه، ومن لم يبخل فقد عصى شحَّه ووقي شرَّه، وذلك هو المفلح وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9] 

الدرر السنية


- قال ابن كثير في التفسير مجلد 13 ص 493 : وقال سفيان الثوري ، عن طارق بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي الهياج الأسدي قال : كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلا يقول : اللهم قني شح نفسي " . لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل " ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنه ، رواه ابن جرير 

قال المحقق : أخرجه الطبري واسناده حسن .... 

(13

سلامة الصدر للمسلمين وعدم الحسد يدخل الجنة

عن أنس بن مالك قال 
كنَّا جُلوسًا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فقالَ : يطلُعُ عليكُم الآنَ رجلٌ من أهلِ الجنَّةِ ، فطلعَ رجلٌ من الأنصارِتنطِفُ لحيتُهُ من وَضوئِه قد تعلَّقَ نَعليهِ بيدِه الشِّمالِ ، فلمَّا كانَ الغَدُ قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ مثلَ ذلكَ فطلعَذلكَ الرَّجلُ مثلَ المرَّةِ الأُولَى ، فلمَّا كانَ في اليومِ الثَّالثِ قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ مثلَ مقالتِهِ أيضًا ، فطلعَذلكَ الرَّجلُ على مِثلِ حالِه الأُولَى ، فلمَّا قامَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ تبِعَه عَبدُ اللهِ بنِ عمرو بنِ العاصِ فقالَ : إنِّى لاحَيتُ أبي فأقسَمتُ أن لا أدخُلَ عليهِ ثلاثًا ، فإن رأيتَ أن تُؤويَني إليك حتَّى تمضِيَ فَعلتُ ، قالَ : نعَم ، قال أنَسٌ : فكانَ عبدُ اللهِ يحدِّثُ أنَّه باتَ معهُ تلكَ الثَّلاثِ اللَّيالِي فلم يرَهُ يقومُ من اللَّيلِ شيئًا غيرَ أنَّه إذا تعارَّ وتقلَّبَ على فِراشِه ذكرَ اللهَ وكبَّرَ حتَّى يَقومَ لصلاةِ الفَجرِ ، قالَ عبدُ اللهِ : غيرَ أنِّي لَم أسمَعْه يقولُ إلَّا خيرًا ، فلمَّا مَضتِ الثَّلاثُ ليالٍ وكِدتُ أن أحتقرَ عَملَه قُلتُ : يا عبدَ اللهِ لَم يكُنْ بيني وبينَ أبى غَضبٌ ولا هَجرٌ ، ولكنْ سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ يقولُ لكَ ثَلاثَ مرارٍ : يطلعُ عليكم الآنَ رجلٌ من أهلِ الجنَّةِ ، فطلعتَ أنتَ الثَّلاثَ المِرارَ ، فأردتُ أن آوِيَ إليك لأنظرَ ما عَملُكَ فأقتدِيَ بهِ ، فلم أرَكَ تعمَلُ كثيرَ عملٍ ، فما الَّذي بلغَ بكَ ما قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ ؟ قالَ : ما هوَ إلَّا ما رأيتَ ، فلمَّا ولَّيتُ دعانِي فقالَ : ما هوَ إلَّا ما رأيتَ غيرَ أنِّي لا أجِدُ في نَفسي لأحَدٍ من المسلمينَ غِشًّا ، ولا أحسُدُ أحدًا على خَيرٍ أعطَاه اللهُ إيَّاهُ ، قالَ عبدُ اللهِ : هذهِ الَّتي بلغَتْ بكَ وهيَ الَّتي لا تُطاقُ
وقال إسناده صحيح على شرط الصحيحين وصححه البوصيري والهيتمي 
-أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (10699)، وأحمد (12697) باختلاف يسير.
ضعفه الألباني في الترغيب 

قال الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين المسند 12720


لمَّا قدمَ النبي صلَّى اللَّه عليه وسلم المدينةَ أتاهُ المُهاجرونَ فقالوا يا رسولَ اللَّهِ ما رأينا قومًا أبذلَ من كثيرٍ ولاَ أحسنَ مواساةً من قليلٍ من قومٍ نزلنا بينَ أظْهرِهم لقد كفَونا المؤنةَ وأشرَكونا في المَهنإِ حتَّى خِفنا أن يذْهبوا بالأجرِ كلِّهِ. فقالَ النبي صلَّى اللَّه عليه وسلم لاَ ما دعوتُمُ اللَّهَ لَهم وأثنيتُم عليْهِم
عن أنس صححه الألباني عند الترمذي 2487 
أخرجه أبو داود (4812)، والترمذي (2487) واللفظ له، والنسائي في ((عمل اليوم والليلة)) (181)، وأحمد (13075) 

-"لقد كفَوْنا المُؤْنةَ"، أي: لقد تحَمَّلوا عنَّا العملَ والمشقَّةَ، "وأشرَكونا في المهنَأِ"، أي: وأشرَكونا في الخيرِ والنَّعيمِ والهناءَةِ، 


مسألة في تسليم عمر الفيء الي علي والعباس رضي الله عن الجميع

عن مالك بن أوس بن الحدثان قال 
انطلقتُ حتى ادخلَ على عمرَ إذْ أتاهُ حاجبُهُ يَرْفَا فقالَ : هل لكَ في عثمانَ وعبدِ الرحمنِ والزبيرِ وسعدٍ يستأذنونَ ؟ قال : نعم ، فأَذِنَ لهمْ ، قال : فدخَلوا وسلَّموا فجلسوا ، ثم لبِثَ يرْفا قليلا فقالَ لعمرَ : هل لك في عليٍ وعباسٍ ؟ قال : نعمْ ، فأَذِنَ لهما ، فلمَّا دخَلا سلَّمَا وجلَسَا ، فقالَ عباسٌ : يا أميرَ المؤمنينَ ، اقضِ بيني وبينَ هذا ، فقالَ الرهطُ عثمانُ وأصحابُهُ : يا أميرَ المؤمنينَ ، اقضِ بينَهُمَا وأَرِحْ أحدَهُما من الأخرِ ، فقالَ عمرُ : اتَّئِدُوا ، أنْشُدُكُم باللهِ الذي بهِ تقومُ السماءُ والأرضُ ، هلْ تعلمونَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ : ( لا نُورَثُ ، ما تركْنا صدقةٌ ) يريدُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ نفسَه ، قال الرهطُ : قدْ قالَ ذلكَ ، فأقْبَلَ عمرُ علَى عليٍّ وعباسٍ فقالَ : أَنْشُدُكُمَا باللهِ ، هلْ تعلمانِ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ ذلكَ ؟ قالا : قد قالَ ذلكَ ، قالَ عمرُ : فإنِّي أحدثُكُمْ عنْ هذا الأمرِ ، أنَّ اللهَ كانَ خصَّ رسولَهُ صلى الله عليهِ وسلَّمَ في هذا المالِ بشيءٍ لمْ يُعْطَهُ أحدٌ غيرُه ، قال اللهُ : { مَا أفَاءَ اللهُ علَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ - إلى قولِهِ - قَدِيرٌ } فكانتْ هذهِ خالصةً لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، واللهُ ما احْتَازَها دونَكُمْ ، ولا اسْتَأْثِرُ بها عليكمْ ، لقَدْ أعطاكُمُوها وبثَّها فيكُمْ حتى بَقِيَ منها هذا المالُ ، فكانَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ينفِقُ على أهلِهِ نفَقَةَ سَنَتِهِمْ من هذا المالِ ، ثمَّ يأْخُذُ ما بَقِيَ ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مالِ اللهِ ، فَعَمِل بذلكَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حياتَهُ ، أَنْشُدُكُمْ باللهِ ، هلْ تعلمونَ ذلكَ ؟ قالوا : نَعَم ، قال لعليٍ وعباسٍ : أَنْشُدُكُمَا باللهِ هلْ تعلمَانِ ذلكَ ؟ قالا : نعمْ ، ثم تَوَفَّى اللهُ نبيَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ أبو بكرٍ : أنا وَلِيُّ رسولِ اللهِ صلى اللهِ عليهِ وسلّمَ ، فَقَبَضَهَا أبو بكرٍ يعمَلُ فيها بِمَا عَمِلَ بهِ فيها رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأنْتُمَا حينئذٍ - وأقْبَلَ علَى عليٍّ وعباسٍ - تَزْعُمَانِ أنَّ أبَا بكرٍ كذا وكذا ، واللهُ يعلمُ : أنَّهُ فيها صادقٌ بارٌّ راشدٌ تابعٌ للحقِّ ، ثم تَوَفَّى اللهُ أبا بكْرٍ ، فقلتُ : أنا وَلِيُّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأبي بكرٍ ، فَقَبَضْتُها سنتَينِ أعمَلُ فيها بما عَمِلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأبو بكرٍ ، ثمَّ جِئْتُمَاني وكَلِمَتُكُمَا واحدةٌ وأمْرُكُما جميعٌ ، جِئْتَني تسأَلُني نصيبَكَ من ابنِ أخيكَ ، وأتَى هذا يسأَلُني نصيبَ امرَأَتِهِ من أبيهَا ، فقلتُ : إنْ شئْتُمَا دفعتُهُ إليكُمَا على أنَّ علَيْكُمَا عهدُ اللهِ ومِيَثاقُهُ ، لتَعْمِلانِ فيها بما عَمِلَ بهِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وبمَا عملَ بهِ فيها أبو بكرٍ وبما عمِلْتُ فيها مُنْذُ وُلِّيتُهَا ، وإلا فلا تُكَلمَاني فِيها ، فَقُلتُما ادْفَعْها إلينَا بِذَلِكَ فدَفَعْتُها إلَيكُمَا بذلكَ ، أَنْشُدُكُمْ باللهِ هلْ دفعتُهَا إليهِمَا بذلكَ ؟ فقالَ الرهطُ : نعمْ ، قالَ : فَأَقْبَلَ على عليٍّ وعباسٍ فقالَ : أَنْشُدُكُمِا باللهِ هلْ دَفَعْتُها إليكُمَا بذلكَ ؟ قالا : نعمْ ، قالَ أفَتَلتَمِسَانِ منِّي قضاءَ غيرَ ذلكَ ، فوَالذي بإذْنِهِ تقُومُ السماءُ والأرضُ ، لا أقضِي فيها قضاءً غيرَ ذلكَ حتى تقومَ الساعةُ ، فإنْ عَجَزْتُمَا عنها فادْفَعَاها فَأَنا أكْفِيكُماهَا .

صحيح البخاري 

بينا أنا جالسٌ في أهلي حين متعَ النهارُ ، إذا رسولُ عمرَ بنِ الخطابِ يأتيني ، فقال : أَجِبْ أميرَ المؤمنينَ ، فانطلقتُ معهُ حتى أدخل على عمرَ ، فإذا هو جالسٌ على رمالِ سريرٍ ، ليس بينَهُ وبينَهُ فراشٌ ، متكئٌ على وسادةِ من أَدَمٍ ، فسلَّمتُ عليهِ ثم جلستُ ، فقال : يا مالِ ، إنَّهُ قَدِمَ علينا من قومكَ أهلُ أبياتٍ ، وقد أمرتُ فيهم برَضْخٍ ، فاقبضْهُ فاقْسِمْهُ بينهم ، فقلتُ : يا أميرَ المؤمنينَ لو أمرتَ بهِ غيري ، قال : اقبضْهُ أيها المرءُ ، فبينا أنا جالسٌ عندَهُ أتاهُ حاجبُهُ يرفَأُ ، فقال : هل لك في عثمانَ وعبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ والزبيرِ وسعدِ بنِ أبي وقاصٍ يستأذنونَ ؟ قال : نعم ، فأَذِنَ لهم فدخلوا فسلَّموا وجلسوا ، ثم جلس يرفأُ يسيرًا ، ثم قال : هل لكَ في عليٍّ وعباسٍ ؟ قال : نعم ، فأَذِنَ لهما فدخلا فسلَّما فجلسا ، فقال عباسٌ : يا أميرَ المؤمنينَ اقضِ بيني وبين هذا ، وهما يختصمانِ فيما أفاء اللهُ على رسولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من بني النضيرِ ، فقال الرهطُ ، عثمانُ وأصحابُهُ : يا أميرَ المؤمنينَ اقضِ بينهما ، وأَرِحْ أحدهما من الآخرِ ، قال عمرُ : تيدكم ، أَنْشُدُكُمْ باللهِ الذي بإذنِهِ تقومُ السماءُ والأرضُ ، هل تعلمونَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال : ( لا نُورَثُ ، ما تركنا صدقةٌ ) . يريدُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ نفسُهُ ؟ قال الرهطُ : قد قال ذلك ، فأقبل عمرُ على عليٍّ وعباسٍ ، فقال : أَنْشُدُكُمَا اللهَ ، أتعلمانِ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قد قال ذلك ؟ قالا : قد قال ذلك ، قال عمرُ : فإني أُحدِّثكم عن هذا الأمرِ ، إنَّ اللهَ قد خصَّ رسولَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في هذا الفيءِ بشيٍء لم يُعْطِهُ أَحَدًا غيرَهُ ، ثم قرأ : وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ - إلى قوله - قَدِيرٌ . فكانت هذه خالصةٌ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، واللهِ ما احتازها دونكم ، ولا استأثرَ بها عليكم ، قد أعطاكموها وبثَّها فيكم ، حتى بقيَ منها هذا المالُ ، فكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُنْفِقُ على أهلِهِ نفقةَ سَنَتِهِمْ من هذا المالِ ، ثم يأخذُ ما بَقِيَ فيجعلُهُ مَجْعَلُ مالِ اللهِ ، فعمل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بذلك حياتَهُ ، أَنْشُدُكُمْ باللهِ هل تعلمونَ ذلك ؟ قالوا : نعم ، ثم قال لعليٍّ وعباسٍ : أَنْشُدُكُمْ باللهِ هل تعلمانِ ذلك ؟ قال عمرُ : ثم تَوفى اللهُ نبيَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، فقال أبو بكرٍ : أنا وليُّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، فقبضها أبو بكرٍ ، فعمل فيها بما عمل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، واللهُ يعلمُ : إنَّهُ فيها لصادقٌ بارٌّ راشدٌ تابعٌ للحقِّ ، ثم توفى اللهُ أبا بكرٍ ، فكنتُ أنا وليَّ أبي بكرٍ ، فقبضتها سنَتَيْنِ من إمارتي ، أعملُ فيها بما عمل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وما عمل فيها أبو بكرٍ ، واللهُ يعلمُ : إني فيها لصادقٌ بارٌّ راشدٌ تابعٌ للحقِّ ، ثم جئتماني تُكلِّماني ، وكلِمتكما واحدةٌ وأمركما واحدٌ ، جئتني يا عباسُ تسألني نصيبكَ من ابنِ أخيكَ ، وجاءني هذا - يريدُ عليًّا - يريدُ نصيبَ امرأتِهِ من أبيها ، فقلتُ لكما : إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال : ( لا نُورَثُ ،ما تركنا صدقةٌ ) . فلمَّا بدا لي أن أدفعَهُ إليكما ، قلتُ : إن شئتما دفعتهما إليكما ، على أنَّ عليكما عهدُ اللهِ وميثاقُهُ : لتَعملانِ فيها بما عمل فيها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، وبما عمل فيها أبو بكرٍ ، وبما عملتُ فيها منذ وَليتها ، فقلتما : ادفعها إلينا ، فبذلكَ دفعتها إليكما ، فأَنْشُدُكُمْ باللهِ هل دفعتها إليهما بذلك ؟ قال الرهطُ : نعم ، ثم أقبلَ على عليٍّ وعباسٍ ، فقال : أَنْشُدُكُمَا باللهِ ، هل دفعتها إليكما بذلك ؟ قالا : نعم ، قال : فتلتمسانِ مِنِّي قضاءً غيرَ ذلكَ ، فواللهِ الذي بإذنِهِ تقومُ السماءُ والأرضُ لا أقضي غيرَ ذلكَ ، فإن عجزتما عنها فادفعاها إليَّ ، فإني أكفيكماها .

صحيح البخاري 


- وفي رواية ابي داواد : 
أرسل إلي عمر حين تعالى النهار فجئته فوجدته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله فقال حين دخلت عليه يا مال إنه قد دف أهل أبيات من قومك قد أمرت فيهم بشيء فأقسم فيهم قلت لو أمرت غيري بذلك فقال خذه فجاءه يرفأ فقال يا أمير المؤمنين هل لك في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص قال نعم فأذن لهم فدخلوا ثم جاءه يرفأ فقال يا أمير المؤمنين هل لك في العبًاس وعلي قال نعم فأذن لهم فدخلوا فقال العبًاس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا يعني عليا فقال بعضهم أجل يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرحهما قال مالك بن أوس خيل إلي أنهما قدما أولئك النفر لذلك فقال عمر رحمه الله اتئدا ثم أقبل على أولئك الرهط فقال أنشدكم بًالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركنا صدقة قالوا نعم ثم أقبل على علي والعبًاس رضي الله عنهما فقال أنشدكما بًالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركنا صدقة فقالا نعم قال فإن الله خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخص بها أحدا من الناس فقال الله تعالى ( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ) وكان الله أفاء على رسوله بني النضير فوالله ما استأثر بها عليكم ولا أخذها دونكم فكان رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يأخذ منها نفقة سنة أو نفقته ونفقة أهله سنة ويجعل ما بقي أسوة المال ثم أقبل على أولئك الرهط فقال أنشدكم بًالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون ذلك قالوا نعم ثم أقبل على العبًاس وعلي رضي الله عنهما فقال أنشدكما بًالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمان ذلك قالا نعم فلما توفي رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر أنا ولي رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فجئت أنت وهذا إلى أبي بكر تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها فقال أبو بكر رحمه الله قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم لا نورث ما تركنا صدقة والله يعلم إنه لصادق بًار راشد تابع للحق فوليها أبو بكر فلما توفي أبو بكر قلت أنا ولي رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وولي أبي بكر فوليتها ما شاء الله أن أليها فجئت أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فسألتمانيها فقلت إن شئتما أن أدفعها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تلياها بًالذي كان رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يليها فأخذتماها مني على ذلك ثم جئتماني لأقضي بينكما بغير ذلك والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فرداها إلي

- وفي رواية للبخاري : 
أن عمرَ بنَ الخطابِ- رضي الله عنه- دعاه ، إذ جاءه حاجبُه يَرْفا فقال : هل لك في عثمانَ وعبدِ الرحمنِ والزبيرِ وسعدٍ يستأذنون ؟ فقال : نعم فأدخلْهم ، فلبِثَ قليلًا ثم جاء، فقال : هل لك في عباسٍ وعليٍّ يستأذنان ؟ قال : نعم ، فلما دخلا قال عباس : يا أميرَ المؤمنين، اقضِ بيني وبين هذا ، وهما يختصمان في الذي أفاءَ اللهِ على رسولِه صلى الله عليه وسلم من بني النَّضيرِ ، فاستبَّ عليٌ وعباسٌ ، فقال الرَّهْطُ : يا أميرَ المؤمنين، اقضِ بينهما ، وأرحْ أحدَهما مِن الآخر ، فقال عمر : اتئدوا أنشدُكم باللهِ! الذي بإذنِه تقومُ السماءُ والأرضُ ، هل تعلمون أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : لا نُورَّثُ ، ما تركنا صدقةٌ . يريد بذلك نفسَه ؟ قالوا : قد قال ذلك ؟ فأقبلَ عمرُ على عباسٍ وعليٍّ فقال : أنشدُكما باللهِ ، هل تعلمان أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال : فاني أحدثُكم عن هذا الأمرِ ، إن اللهَ سبحانَه كان خصَّ رسولَه صلى الله عليه وسلم في هذا الفيءِ بشيءٍ لم يُعْطِه أحدًا غيرَه ، فقال جلَّ ذكرُه : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب إلى قوله قدير . فكانت هذه خالصةٌ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ثم واللهِ ما احتازها دونَكم ، ولا استأثرَها عليكم ، لقد أعطاكموها وقسمَها فيكم حتى بَقِيَ هذا المالَ منها ، فكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ينفِقُ على أهله نفقةَ سنتِهم مِن هذا المالِ ، ثم يأخذُ ما بَقِيَ فيجعلُه مَجعلَ مالِ اللهِ ، فعملَ ذلك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حياتَه ، ثم تُوفِّيَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال أبو بكرٍ : فأنا وليُّ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، فقبَضَه أبو بكر فعَمِلَ فيه بما عَمِلَ به رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ، وأنتم حينئذٍ ، فأقبلَ على عليٍّ وعباسٍ وقال : تذكران أن أبا بكر فيه كما تقولان ، والله يَعْلمُ أنه فيه لصادقٌ بارٌّ راشدٌ تابعٌ للحقِّ ؟ ثم توفَّي اللهُ أبا بكرٍ، فقلتُ : أنا وليُّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ ، فقبضتُه سنتين مِن إمارتي أعملُ فيه بما عَمِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ ، واللهُ يعلمُ : أني فيه صادقٌ بارٌّ راشدٌ تابعٌ للحقِّ ؟ ثم جئتماني كلاكما ، وكلمتُكما واحدةٌ ،وأمركُما جميعٌ ، فجئتني ؛ -يعني :عباسا - فقلتُ لكما : إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : لا نُورَّثُ ، ما تركنا صدقةٌ . فلما بدا لي أن أدفعَه إليكما قلتُ : إن شئتُمَا دفعتُه إليكما ، على أن عليكما عهدَ اللهِ وميثاقَه : لِتعملان فيه بما عَمِلَ فيه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ،وأبو بكرٍ ،وما عملتُ فيه مذ ولِّيتُ ، وإلا فلا تكلماني ، فقلتما ادفعْه إلينا بذلك ، فدفعتُه إليكما ، أفتلتمسان مني قضاءً غيرَ ذلك ، فواللهِ الذي بإذنِه تقومُ السماءُ والأرضُ ، لا أقضي فيه بقضاءٍ غير ذلك حتى تقومَ الساعةُ ، فإن عجزْتُما عنه فادفعاه إلىَّ فأنا أكفيكماه . قال : فحدَّثْتُ بهذا الحديثَ عروةَ بنَ الزبيرِ فقال : صدق مالكُ بنُ أُوْسٍ : أنا سمعتُ عائشةَ- رضي الله عنها- زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تقول: أرسلَ أزواجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عثمانَ إلى أبي بكرٍ ، يسألْنَه ثمنَهنذَ مما أفاءَ اللهُ على رسولِه صلى الله عليه وسلم فكنتُ أنا أردُّهنَّ ، فقلت لهنَّ : ألا تتقين اللهَ ! ألم تعلمْنَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم -كان يقولُ : لا نُورَّثُ ، ما تركنا صدقةٌ - يريد بذلك نفسَه - إنما يأكلُ آلُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم في هذا المالِ . فانتهى أزواجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى ما أخبرتُهنَّ ، قال : فكانت هذه الصدقةُ بيدِ عليٍّ ، منعَها عليٌّ عباسًا فغلبَه عليها ، ثم كان بيدِ حسنِ بنِ عليٍّ ، ثم بيد حسينِ بنِ عليٍّ ، ثم بيد عليِّ بنِ حسينٍ ، وحسنِ بنِ حسنٍ ، كلاهما كانا يَتَداولانها ، ثم بيدِ زيدِ بنِ حسنٍ ،وهي صدقةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حقًا .


الفَيْءُ هُو مِمَّا خَصَّ بهِ اللهُ عزَّ وجلَّ نبِيَّهُ من الغَنائمِ ممَّا لَمْ يَقدِرْ عليه المسلمونَ بخيلٍ ولا رِكابٍ، وفي هذا الحديثِ يقولُ مالكُ بنُ أَوْسٍ رضيَ اللهُ عنهُ: (بَيْنا أَنا جالسٌ في أَهلي حينَ مَتَعَ النَّهارُ)، أي: اشتَدَّ حرُّهُ وارْتفعَ، إذْ أَتاهُ رسولُ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رضيَ اللهُ عنه يطلُبُهُ لمُقابَلةِ أَميرِ المؤمنينَ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ، فذهَبَ مالكٌ معَ رسولِ عُمرَ حتى دَخلَ على عُمرَ، فإذا هُو جالسٌ على رِمالِ سَريرٍ، ليسَ بينَهُ وبينَهُ فراشٌ، مُتَّكِئٌ على وِسادةٍ مِن أَدَمٍ، و"رِمالُ سَريرٍ": ما يُنسَجُ مِن وَرقِ النَّخيلِ ليَضْطِجعَ عَليهِ، و"الأَدَمُ": الجِلدُ، فسلَّمَ عليه مالِكٌ وجلَسَ، فقالَ عمرُ: (يا مالِ، إنَّه قدِمَ علَينا مِن قَومِكَ أهلُ أَبياتٍ، وقدْ أمَر فيهِمْ برَضْخٍ، فاقْبِضْهُ فاقْسِمهُ بَينهُمْ)، والمرادُ بـ "يا مالِ"، أي: يا مالكُ، وحَذَفَ الحرفَ الأخيرَ من بابِ التَّرخيمِ للمُنادَى، و"الرَّضْخُ": عطيَّةٌ قليلةٌ غيرُ مُقدَّرةٍ، فقالَ مالكٌ مُعتذِرًا: يا أميرَ المؤمنينَ، لو أَمرتَ بهِ غَيري، أي: لوْ أمرتَ بقَبضِهِ وتَقسيمِهِ أحدًا غَيري؛ فعزمَ عَليهِ عُمرُ في قَبْضِهِ، وبَينما مالكٌ جالسٌ معَ عُمرَ إِذْ أتاهُ حاجِبُه يَرفَأُ، و"يَرْفأُ": هو اسمُ الحاجِبِ، وكانَ من موالي عمرَ, فقالَ حاجِبهُ: هلْ لكَ في عُثمانَ وعبدِ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ، والزُّبَيرِ، وسَعدِ بنِ أَبي وقَّاصٍ يَستأذِنونَ؟ فأذِنَ لهمْ عمرُ، فدَخلوا فسلَّموا وجلَسوا، ثمَّ جلسَ يَرفأُ يسيرًا، ثم قالَ: هلْ لكَ في عليٍّ وعبَّاسٍ؟ قال: نعمْ. فأَذِنَ لهما فدَخلَا فسلَّمَا فجلَسَا، وكان عليٌّ والعبَّاسُ يَختصِمانِ في أموالِ بني النَّضير التي أَفاءَها اللهُ على نبِيِّهِ، فطلبَا من عُمرَ أن يَقضي بينَهما، وأكَّد عُثمانُ وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ والزُّبيرُ وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ لعُمرَ بنَ الخطابِ أنَّ عليه أن يَقضي بَينهُما حتى يُريحَ أَحدَهما من الآخرِ، و"الرَّهْطُ": الجَماعةُ مِن الرِّجالِ ما دُونَ العَشرةِ، وقيلَ: ما دُونَ الأَربعينَ، فقالَ عُمرُ للجَميعِ: (تَيْدَكُمْ)، أي: اصْبِروا وأَمْهِلوا، ثمَّ وجَّهَ خِطابَه لعُثمانَ ومَن مَعَه مِن الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ علَيهِ: أَنشُدُكمْ، أي: أسألُكمْ باللهِ الذي بإِذنِهِ تقومُ السَّماءُ والأرضُ، هلْ تعلَمونَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ: (لا نُورَثُ، ما تَركْنا صَدقةٌ)، أي: إنَّ ما تركه جماعة الأنبياءِ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن أموالٍ لا تُورَثُ لأهلِنا، بلْ ما نترُكُهُ صَدَقةٌ. فأَجابوهُ بِنَعمْ، ثم وجَّه عُمرُ رضيَ اللهُ عنه تلكَ الكلمةَ إلى عليٍّ والعبَّاسِ رضيَ اللهُ عَنهُما، فوافقوه، ثم بدأَ عُمرُ رضيَ اللهُ عنه يُوضِّحُ أصلَ المالِ وأنَّهُ مِن الفيءِ، وكيفَ كانَ يُنفِقُهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على نِسائِهِ، وما تبقَّى منه جعلَهُ في مالِ اللهِ، أي: بيتِ المالِ، وجَعلَ عُمرُ رضيَ اللهُ عنه يُذكِّرُهمْ بما كانَ مِن فِعلِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا الفَيْءِ نحوَ عليٍّ والعبَّاسِ وباقي أَهلِ بيتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بقولهِ: (واللهِ ما احْتازَها دُونَكمْ، ولا اسْتأثَرَ بها عَليْكمْ، قدْ أَعطاكُموها وبثَّها فيكُمْ، حتى بقِيَ مِنها هذا المالُ)، أي: ما جمَعَها واستأْثَرَ بها وحدَه، وما استبَدَّ بها عَليكُمْ، بلْ كانَ لكمْ منها نَصيبٌ، ثم سألَ عمرُ الجميعَ باللهِ: هلِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فعلَ كلَّ ذلكَ في حَياتِهِ؟، فوافَقوه على ما قالَ، ثم جَعلَ عمرُ رضيَ اللهُ عنه يذكِّرُهمْ بعَملِ أبي بكرٍ رضيَ اللهُ عنه في هذا المالِ بعدَ ما ولِيَ أَمرَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ وَفاتِهِ، وأنَّهُ عمِلَ فيها بعَملِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قالَ عمرُ قاصدًا أبا بكرٍ رضيَ اللهُ عنهما: واللهُ يعلمُ، إنَّهُ فيها لصادِقٌ بارٌّ راشدٌ تابعٌ للحَقِّ، ثمَّ انتقلَ عُمرُ يُذكِّرُهمْ بعَمَلِهِ في ذلكَ المالِ بعدَما تُوفِّيَ أَبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنه، وولِيَ الأمرَ بعدَه، وأنَّه عمِلَ في هذا المالِ بعَملِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعَمَلِ أبي بكرٍ رضيَ اللهُ عنه، لمدَّةِ سنَتينِ مِن إِمارتِهِ رضيَ اللهُ عنه، يقولُ عمرُ رضيَ اللهُ عنهُ: واللهُ يعلَمُ إنِّي فيها لصَادِقٌ بارٌّ راشِدٌّ تابعٌ للحَقِّ.
ثمَّ إنَّ عمرَ رضيَ اللهُ عنه ذكَّرَ علِيًّا والعباسَ رضيَ اللهُ عنْهُما بما كانَ مِنهُما من قَبلِ خُصومَتِهما هذهِ، وقولُهُ: (جِئتُماني تُكلِّماني، وكَلِمتُكُما واحِدةٌ وأمرُكما واحِدٌ)، أي: كانَ حالُكما أَنتما الاثْنانِ عِندما جِئتُما تطلُبانِ هذا الفيءَ أنَّه كانتْ كلِمتُكما واحدةً، ليسَ بيْنكُما خُصومةٌ، وذكَّر عمرُ العبَّاسَ بنَ عبدِ المُطلِّبِ بطلَبِهِ مِن قبلُ الذي يَسألُ فيهِ عمرُ رضيَ اللهُ عنه نَصيبَهُ في هذا المالِ؛ لأنَّ العباسَ كانَ عمَّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذكَّر عليَّ بنَ أَبي طالِبٍ بأنَّهُ أتاهُ من قبلُ يَسألُهُ نَصيبَ امرأَتِهِ فاطمةَ بنتِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالَ لهمْ عمرُ قولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (لا نُورَثُ، ما تَركْنا صَدقةٌ)، قالَ عمرُ: فلمَّا بدَا لي أَنْ أدفَعَهُ إليكُما؛ أي وضَحَ وصَحَّ عِندي أنْ أُولِّيَكما أمرَ هذا المالِ على أن تَعمَلَا فيه بعملِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعَمَلِ أبي بكرٍ، وعملي مُنذُ وَلِيتُها، فوَافَقاهُ على أنْ يُولِيَهما أمرَ المالِ وعلى ما شَرطَ عليهما.
ثمَّ سألَ عمرُ عُثمانَ ومَن معَه من الصَّحابةِ باللهِ على أنَّ ما حَكى هو ما حدَثَ، فقَالوا: نَعمْ، ثمَّ وجَّهَ سؤالَهُ لعلِيٍّ والعباسِ، فقالوا نعمْ، فقالَ عمرُ: فتلتَمِسانِ، أي: تَطْلُبانِ مني قَضاءً غيرَ ذلكَ، فواللهِ الذي بِذنِه تقومُ السَّماءُ والأرضُ لا أَقضي غيرَ ذلكَ، فإنْ عَجزْتُما عنها، أي: إن لم تَستطيعَا العملَ فيها بِمثلِ عَملِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأَبي بكرٍ، وعمرَ، فادفعاها إليَّ؛ فإنِّي أكفيكُماها، أي: أقومُ بأمرِها على الوجهِ الذي يُرضي اللهَ ورسولَهُ.

وفي الحديث: أنَّ للحاكمِ العالمِ أنْ يَفصِلَ في الأمورِ الشائكةِ ويُرتِّبَ أمورَ الدولةِ بما فيه المصلحةُ، بعدَ مُشاورةِ أهلِ العِلمِ والاختصاصِ.
وفيه: بيانُ أنَّ الأنبياءَ لا يُورِّثونَ مالًا، وإنَّما مِيراثُهم العِلمُ، وما ترَكوه من المالِ فهو صدقةٌ.
وفيه: مشروعيَّةُ الاعتذارِ عن الولاياتِ والتكليفاتِ التي يُكلَّفُ بها المسلمُ مِن قِبَلِ الحاكمِ إذا عَلِم مِن نفْسِه ضَعفًا، أو عدَمَ القِيامِ بحقِّ الوِلايةِ.
وفيه: بيانُ مناقِبِ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رضِي اللهُ عنه مِن الزُّهدِ والعدلِ، وحُسنِ الفَصلِ في المنازعاتِ..



جلاء بنو النضير

قال تعالى : سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ( 1 ) هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ( 2 ) ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ( 3 ) ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ( 4 ) ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ( 5 ) )


-

قال أبو داود : حدثنا محمد بن داود ، وسفيان ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ، ومن كان معه يعبد معه الأوثان من الأوس ، والخزرج ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر : إنكم آويتم صاحبنا ، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه ، أو لتخرجنه ، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا ، حتى نقتل مقاتلتكم ، ونستبيح نساءكم ، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان ، اجتمعوا لقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيهم ، فقال : " لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم ، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم ؟ " ، فلما سمعوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا ، فبلغ ذلك كفار قريش ، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلىاليهود : إنكم أهل الحلقة والحصون ، وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا ، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء - وهي الخلاخيل - فلما بلغ كتابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتمعت بنو النضير بالغدر ، فأرسلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك ليخرج منا ثلاثون حبرا ، حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك ، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك ، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكتائب فحصرهم ، قال لهم : " إنكم والله لا تأمنوا عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه " . فأبوا أن يعطوه عهدا ، فقاتلهم يومهم ذلك ، ثم غدا الغد على بني قريظة بالكتائب ، وترك بني النضير ، ودعاهم إلى أن يعاهدوه ، فعاهدوه ، فانصرف عنهم . وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم ، حتى نزلوا على الجلاء . فجلت بنو النضير ، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها ، وكان نخل بني النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، أعطاه الله أياها وخصه بها ، فقال : ( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ) يقول : بغير قتال ، فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثرها للمهاجرين ، قسمها بينهم ، وقسم منها لرجلين من الأنصار وكانا ذوي حاجة ، ولم يقسم من الأنصار غيرهما ، وبقي منها صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي في أيدي بني فاطمة .

رقم 3004 : صححه العلامة الألباني ، والحافظ في الفتح

- قال ابن كثير في التفسير مجلد 13 ص 473 - 474 : 

ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على وجه الاختصار ، وبالله المستعان . 

وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسير : أنه لما قتل أصحاب بئر معونة ، من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا سبعين ، وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري ، فلما كان في أثناء الطريق راجعا إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر ، وكان معهما عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمان لم يعلم به عمرو فلما رجع أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقد قتلت رجلين ، لأدينهما " وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك الرجلين ، وكان منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها شرقيها 

قال محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه السيرة : ثم خرج رسول الله إلى بني النضير ، يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتل عمرو بن أمية الضمري ; للجوار الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقد لهما ، فيما حدثني يزيد بن رومان ، وكان بين بني النضير ، وبني عامرعقد وحلف . فلما أتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا : نعم ، يا أبا القاسم ، نعينك على ما أحببت ، مما استعنت بنا عليه . ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب جدار من بيوتهم - فمن رجل يعلو على هذا البيت ، فيلقي عليه صخرة ، فيريحنا منه ؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم ، فقال : أنا لذلك ، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه ، فيهم أبو بكر ، وعمر ، وعلي رضي الله عنهم . فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام وخرج راجعا إلى المدينة فلما استلبث النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه ، فقال : رأيته داخلا المدينة . فأقبل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهوا إليه ، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به ، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم . ثم سار حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع النخل والتحريق فيها . فنادوه : أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه ، فما بال قطع النخل وتحريقها ؟

وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج ، منهم عبد الله بن أبي بن سلول ، ووديعة ، ومالك بن أبي قوقل ، وسويد ، وداعس ، قد بعثوا إلى بني النضير : أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم ، إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم ، فتربصوا ذلك من نصرهم ، فلم يفعلوا ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجليهم ويكف عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ، ففعل ، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه ، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به . فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام وخلوا الأموال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت لرسول الله خاصة ص: 59 ] يضعها حيث شاء ، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار . إلا أن سهل بن حنيف ، وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا ، فأعطاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال : ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان : يامين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها 


قال : ابن إسحاق : قد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليامين : " ألم تر ما لقيت من ابن عمك ، وما هم به من شأني " . فجعل يامين بن عمير لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله فيما يزعمون . 

قال ابن إسحاق : ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها . اه من التفسير 


- الحلقة : السلاح