سالة السلطان محمد الفاتح إلى أخيه سلطان مصر الأشرف إينال يُبيِّن فيها فَتْحَ القسطنطينية عام 857هـ، وهي من إنشاء الشيخ أحمد الكوراني:
"... إن من أحسن سُنَنِ أسلافنا -رحمهم الله تعالى- أنهم مجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، ونحن على تلك السُّنَّة قائمون، وعلى تيك الأُمْنِيَة ممتثِّلون قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، ومُسْتَمْسِكِين بقوله r: "مَنِ اغْبَرَّتْ[2] قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ"[3]. فَهَمَمْنَا في هذا العام -عمَّمه الله بالبركة والإنعام- معتصمين بحبل الله ذي الجلال والإكرام، ومستمسكين بفضل الله العلام إلى أداء فرض الغزاء في الإسلام، مؤتمرين بأمره تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]. وجهَّزْنَا عساكر الغُزَاة والمجاهدين من البَرِّ والبحر لِفَتْحِ مدينة مُلِئَتْ فجورًا وكُفْرًا، التي بقيت وسط الممالك الإسلاميَّة تُبَاهِي بكُفْرِها فخرًا.
... هذه المدينة الواقع جانب منها في البحر، وجانب منها في البرِّ، فأَعْدَدْنَا لها كما أمرنا الله بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، كلَّ أُهْبَة يُعْتَدُّ بها، وجميعَ أسلحة يُعتمد عليها من البرق والرعد والمنجنيق والنقب والحجور، وغيرها من جانب البرِّ، والفلك المشحون، و{الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الرحمن: 24] من جانب البحر، ونزلنا عليها في السادس والعشرين من ربيع الأوَّل من شهور سنة سبع وخمسين وثمانمائة.
فقُلْتُ للنفس جدِّي الآنَ فاجتهدي *** وساعديني فهذا ما تمنَّيْتُ[7]
فكُلَّمَا دُعُوا إلى الحقِّ أصرُّوا واستكبروا وكانوا من الكافرين، فأحطنا بها محاصَرَة، وحارَبْنَاهم وحاربونا، وقاتلْنَاهم وقاتلونا، وجرى بيننا وبينهم القتال أربعة وخمسين يومًا وليلة.
إذا جاء نصر الله والفتح هيِّن *** على المرءِ معسور الأمور وصعبها[8]
فمتى طلع الصباح الصادق من يوم الثلاثاء العشرين من جمادى الأولى هَجَمْنَا مثل النجوم رجومًا لجنود الشياطين، سخَّرَهَا الحكمُ الصدِّيقيُّ ببركة العَدْل الفاروقيِّ بالضرب الحيدري لآل عثمان، وقد مَنَّ الله بالفتح قبل أن تظهر الشمس من مشرقها، {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهي وَأَمَرُّ} [القمر: 45، 46]، وأوَّل مَنْ قُتل وقُطِعَ رأسه تكفورهم اللعين الكنود، فأُهلكوا كقوم عاد وثمود، فأخذتهم ملائكة العذاب، فأوردهم النار وبئس المآب، فقُتِل مَنْ قُتل وأُسِرَ من به بَقِيَ، وأغاروا على خزاينهم، وأخرجوا كنوزهم ودفائينهم موفورًا، فأتى عليهم حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فيومئذ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، فلما ظهرنا على هؤلاء الأرجاس[9] الأنجاس[10]، طهَّرْنَا القوس من القسوس، وأخْرَجْنَا منه الصليب والناقوس، وصيَّرْنَا مَعَابِدَ عَبَدَة الأصنام مساجِدَ أهل الإسلام، وتشرَّفَتْ تلك الخُطَّة بشرف السكة والخطبة، فوقع أمر الله وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"[11].
[4] الحَصَفُ: بَثْرٌ صِغار يقِيحُ ولا يَعْظُم. انظر: ابن منظور: اللسان، مادة حصف 9/48.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق